العدالة الانتقالية في سوريا- تحديات المصالحة وبناء المستقبل

المؤلف: عمر كوش09.22.2025
العدالة الانتقالية في سوريا- تحديات المصالحة وبناء المستقبل

في مشهد تاريخي، اهتزت أركان نظام الأسد وسقط بشكل مدوٍ وسريع في الثامن من ديسمبر/كانون الأول المنصرم، بعد سنوات طوال من المعاناة والصبر، وكان جليًا أنّ السوريين الشرفاء هم من أطاحوا به. الآن، يقع على عاتق الإدارة الجديدة عبء بناء صرح جديد لسوريا المستقبل، يختلف جوهريًا عن الصورة الكارثية والمأساوية السابقة، ويستجيب لمجموعة من المطالب الداخلية والخارجية الملحة. يتطلب هذا التحول مرحلة انتقالية دقيقة، يتم خلالها تقديم خطط عملية وسريعة، قادرة على إرساء دعائم الحوكمة الرشيدة، ويتم تنفيذها من خلال حكومة انتقالية ذات تمثيل مجتمعي وسياسي واسع النطاق، بما يمهد الطريق لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية حرة ونزيهة، تمنح السوريين الحق الكامل في تقرير مصيرهم ورسم مستقبل بلادهم.

أهمية العدالة الانتقالية

من بين أبرز الاستحقاقات التي تفرضها المرحلة الانتقالية في سوريا، يبرز العمل الدؤوب على تحقيق الوئام المجتمعي المنشود، وهو هدف سام لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال تحقيق العدالة الانتقالية. العدالة الانتقالية ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي جوهر الثورة وقضية محورية في مسيرة بناء سوريا الجديدة، حيث تتناول بالتفصيل كيفية معالجة الانتهاكات والجرائم الشنيعة التي ارتُكبت بحق الشعب السوري على مدى عقود طويلة من الاستبداد والتسلط، وكيفية التخلص من تركتها الثقيلة على جميع الأصعدة.

لذا، من الأهمية بمكان أن تكون العدالة الانتقالية شاملة وجامعة، وأن تركز بشكل خاص على محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، وعلى رأسهم أركان نظام الأسد، سواء كانوا قادة عسكريين أو شخصيات سياسية متورطة.

وفي هذا السياق، يكتسب تأكيد القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، في العاشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، على ضرورة ملاحقة مجرمي الحرب والمطالبة بتسليمهم "من الدول التي فروا إليها، حتى ينالوا جزاءهم العادل" أهمية بالغة.

تتجلى أهمية العدالة الانتقالية في كشف حقيقة الانتهاكات التي حدثت، وإثباتها بالأدلة الدامغة، والاعتراف الصريح بمعاناة الضحايا وآلامهم التي لا تُحصى، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات قانونيًا بكل حزم، وتعويض ذوي الضحايا بشكل عادل ومنصف، ووضع أسس وقوانين متينة تمنع تكرار الانتهاكات في المرحلة الانتقالية وفي المستقبل. وفضلًا عن ذلك، تمثل العدالة الانتقالية الطريق الأمثل لتحقيق المصالحة المجتمعية وتضميد الجروح العميقة التي أثقلت كاهل المجتمع السوري.

كما تكمن أهميتها الخاصة في إسهامها الفعال في إعادة بناء الثقة المفقودة بين مكونات المجتمع السوري، واعتبارها حجر الزاوية في أي عملية انتقالية تهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. إن الصيغة المثلى لمعالجة آثار الاستبداد تكمن تحديدًا في العمل الجاد على إجراء مصالحة وطنية حقيقية، وذلك بعد وضع التشريعات اللازمة وإيجاد الآليات التي تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية الانتقالية، وفق آليات قانونية مدروسة بعناية، بعيدًا كل البعد عن ممارسات الانتقام والإقصاء والاستئصال، وتوفير التشريعات والإجراءات الكفيلة بإعادة بناء الهوية الوطنية السورية على أسس المواطنة المتساوية والتعددية الثقافية، وبما يتوافق تمامًا مع المبادئ الدستورية الراسخة.

ومما لا شك فيه، يبرز في هذا السياق تشكيل محاكم خاصة ومحايدة من أجل محاكمة مسؤولي النظام السابق، وعلى رأسهم بشار الأسد، وجميع من ارتكبوا انتهاكات ومجازر بشعة بحق السوريين، وذلك إنصافًا للضحايا ولذويهم، ولكي يطمئن الناس إلى التغيير الجذري الحاصل، وإخماد نار الثأر والانتقام لديهم. وبالتالي، تلوح في الأفق مهمة أساسية وعاجلة أمام الإدارة الجديدة في سوريا، وهي التعامل بحكمة ومسؤولية مع إرث طويل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان.

المسار والتحديات

إن مسار العدالة الانتقالية ليس مجرد مسار قانوني أو إداري فحسب، بل هو عملية تحويلية شاملة تهدف إلى إعادة بناء الثقة المتصدعة في المؤسسات، وإرساء أسس عقد اجتماعي جديد ومتين بين جميع السوريين. وهي عملية معقدة ومليئة بالتحديات، نظرًا لوجود صعوبات جمة على الصعيدين العملي والسياسي. فمن الناحية العملية، يشكل العدد الهائل للمتورطين في الانتهاكات تحديًا كبيرًا، قد يتجاوز قدرة أي نظام قضائي على التعامل معه، خاصة وأن الإدارة الجديدة تجد نفسها أمام مهمة صعبة للغاية حيال مواجهة هذا الملف الشائك، حيث تضطر إلى إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقضائية من الصفر.

تحمل العدالة الانتقالية في طياتها أيضًا تحديات كبيرة تتعلق بمحاكمة المتورطين في العنف السياسي والعسكري، وبما يفضي في النهاية إلى تحقيق العدالة المنشودة وضمان الاستقرار في الوقت نفسه، الأمر الذي يزيد من تعقيد عملية الانتقال السياسي.

وهناك تجارب عديدة للعدالة الانتقالية في مختلف أنحاء العالم، وظهرت أولى تجسيداتها بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي استهدفت مجرمي الحرب النازيين. ثم أصبحت العدالة الانتقالية في ثمانينيات القرن الماضي مجالًا حيويًا لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الأنظمة الاستبدادية أو أثناء النزاعات والحروب.

وتجسدت جليةً خلال التحولات الديمقراطية التي شهدتها دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، من أجل التعامل مع إرث النظم القمعية والتسلطية التي مارست مختلف أشكال العنف السياسي المنهجي ضد معارضيها.

ترتبط مسألة تحقيق العدالة الانتقالية ارتباطًا وثيقًا بمدى نجاح الإدارة الجديدة في تحقيق انتقال سياسي واقتصادي سلس، ويتطلب ذلك تحوّلًا جذريًا يتوافق مع القيم والمبادئ القانونية السامية، ويحترم حقوق الناس وحرياتهم الأساسية، ويهدف إلى تقليل العنف وعدم الاستقرار.

ويتطلب تحقيق العدالة الانتقالية أن يحظى المتورطون في الجرائم والانتهاكات بمحاكمات عادلة وشفافة، كي تشكل العدالة الانتقالية فرصة حقيقية لمعالجة الماضي بكل جرأة ومسؤولية، ولرسم مستقبل جديد ومشرق لسوريا، وضمان إعادة بناء المجتمع السوري الممزق بفعل عقود طويلة من الاستبداد والقمع والانقسام.

كما أن تطبيق العدالة الانتقالية يمثل تحديًا كبيرًا، بالنظر إلى تعقيدات الحرب التي شنها نظام الأسد على غالبية الشعب السوري، حيث تعددت أطرافها وتداخلت مصالحها، خاصة مع التدخلين الإيراني والروسي السافر إلى جانب النظام. لذلك، يجب مراعاة جميع الظروف السياسية والاجتماعية الدقيقة عند تطبيق أهداف العدالة الانتقالية، وبشكل يتلاءم تمامًا مع الواقع المتشابك والمعقد الذي عاشه السوريون.

ومن بين التحديات المطروحة، الموازنة الدقيقة بين العدالة الإجرائية والموضوعية، فالأولى تركز على ضبط آليات العمل بما يحقق العدالة، فيما الثانية تركز على المخرجات والنتائج الملموسة. إذ لا بد من الالتزام الكامل بالأسس النظرية والأخلاقية والقانونية والسياسية والاجتماعية من أجل إنشاء محاكم محلية تحظى بدعم دولي واسع النطاق، ولضمان عدم تسييس المحاكمات.

ويمكن للسوريين الاستفادة من الخبرات الدولية المتراكمة، والمساعدة الهادفة إلى تحقيق إجراءات عدالة ناجحة، من خلال تدريب مراقبين سوريين وعرب لحقوق الإنسان، والذين يمكنهم توثيق وتسجيل الشكاوى بطريقة منهجية وعلمية.

المصالحة الوطنية

إذا كانت غاية العدالة الانتقالية هي الوصول إلى الوئام المجتمعي والمصالحة الوطنية الشاملة في سوريا، فإن ذلك يتطلب تشكيل لجنة مستقلة ومحايدة في هذا المجال، يمكنها أن تضم ممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وشخصيات اجتماعية بارزة في الداخل، وجهات قانونية وحقوقية دولية مرموقة، وذلك من أجل إيجاد نوع من التوازن الدقيق بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بهدف خلق بيئة قانونية سليمة تسمح بتحقيق العدالة، وتعمل في الوقت نفسه على ترسيخ دعائم دولة القانون التي يتوق إليها السوريون.

ولا شك في أن عملية المصالحة وجبر الضرر تتطلب نهجًا واسعًا وشاملًا، يشمل جميع الأطياف السياسية والاجتماعية، ويتيح لها التعبير عن آرائها بحرية، وذلك من خلال إيجاد منصات تفاعلية في داخل سوريا، وبما يسهم في بناء العملية الانتقالية وفق آليات تدعم الحوار الوطني البناء.

ولا شك أيضًا في أن المصالحة الوطنية تساند الهدف الرئيس للعدالة الانتقالية، بالنظر إلى أهميتها وحساسياتها الشديدة في السياق السوري، وإسهامها الفعال في إعادة بناء الهوية الوطنية على أسس قانونية واجتماعية متينة. المصالحة الوطنية هي أحد أهم أهداف العدالة الانتقالية، لذلك تكتسب أهمية قصوى في بلد متعدد الإثنيات والطوائف مثل سوريا.

وهناك مؤشرات أولية واعدة تبعث على الأمل، لكن التحدي الرئيس الذي يواجه إدارة المرحلة الانتقالية هو كيفية الوصول إلى سوريا التعددية المدنية، بوصفها الهدف الأسمى للعدالة في سوريا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة